top of page

الإنسحاب الأمريكي المتوقع من سوريا..مخاطر سياسات القضم وانهيار الإستقرار النسبي


 









ريناس سينو

الرئيس التنفيذي لـ تفن


أشارت العديد من التحليلات السياسية والصحفية التي خرجت في العقّدين المنصرمّين، إلى أن السبب الرئيسي لسقوط الأنظمة في مصر وتونس وأفغانستان والعراق وغيرها من الدول -التي شهدَت تغييراً جذرياً في أنظمتها وحكوماتها- يعّود إلى التدخل الخارجي فحسّب، غير أن هذا التحليل يشوبه الكثير من الإستعجال والمزاجية.


ومن الواضح أن متبني هذا التحليل يتغافلون عن المسببات الداخلية المرتبطة ببنية هذه الأنظمة وفساد الحكومات فيها على المستويين السياسي والاقتصادي، وفشلها في بناء دول وطنية تقوم على التعددية السياسية والثقافية، هذه الأسباب غالبًا ما تكون سبباً رئيسياً لإستياء الشعوب وللتدخل الخارجي في نفس الوقت، ومع وقوف الشعوب التي حكمتها تلك الأنظمة بالقمع والفساد مع هذه التدخلات إلا تعبيراً عن اليأس من الإصلاح، وأملاً في مستقبل أفضل لها، على الرغم من عدم تيقّنها من نتائج التدخل، وهل ستنعكس إيجاباً أم سلباً عليها!. تتحمل الدول العظمى كالولايات المتحدة وروسيا، كذلك الاتحاد الأوربي المسؤولية عن فشل الوصول إلى الاستقرار الذي تطمح إليه الشعوب فمن خلال عملي في الشأن العام منذ انطلاق حركة الإحتجاجات في سوريا عام ٢٠١١، كان يتم مواجهتنا من قبل المجتمع الدولي بسؤال غايةً في الفظاظة السياسية وهو (ما هو البديل لنظام السوري؟) وعلى غرار السؤال لطالما كان جوابي أن البديل هو الشعب السوري. وانطلاقاً من السؤال ذاته، بدأت الدول الغربية بدعم المشاريع السياسية لبناء بديل عن نظام الأسد، لكن كل هذه المشاريع لم ترق إلى مستوى البديل الذي تطمح إليه الدول الغربية، ليس فقط بسبب فشل السياسيين السوريين، بل بسبب عدم فهمهم لطبيعة العلاقات الجيوسياسية والاجتماعية وغياب استراتيجية للتغيير، ونتيجة لذلك، بدى التركيز على إدارة الأزمة وليس إنهاءها!

نجحت روسيا في قضم مشاريع الغرب شيئاً فشيئاً حتى لم يبق لها سوى المشروع التركي وشركائه، جبهة النصرة والمرتزقة السوريين تحت مسمى الجيش الوطني السوري، ومشروع الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا حلفاء الولايات المتحدة.

المزاج العام.

اليوم، آفاق الحل في سوريا غير واضحة، لكن جميع المؤشرات تشير إلى أنها أخذت بالميلان لصالح الروس، خاصة مع زيادة التوقعات في انسحاب أمريكي وشيك مع حلفائها من سوريا، على غرار أفغانستان، فعدم الإعلان عن خطة أو استراتيجية واضحة لإدارة بايدن حتى الآن، وتقليص عدد العاملين الدبلوماسيين في الملف السوري، كذلك تقليص حجم الدعم الأمريكي وشكله وأهدافه، وتصريحات المسؤولين الأمريكيين والتي غالباً ما تشبه مسك العصا من المنتصف، إضافةً لكابوس التجربة السابقة للانسحاب الأمريكي من تل أبيض وراس العين، كلها بواعث لتشكيل هذا المزاج العام غير المتفائل ببقاء الولايات المتحدة لدى العاملين في الشأن العام. من المؤكد أن الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان يجعل من توقع الإنسحاب المستقبلي من سوريا مسلمة ثابتة ، ويزيد من هذا الإحتمال هو التحركات الأخيرة للاعبين محليين ودوليين. فالـ"جيش الوطني السوري" أعلن عن تشكيل جديد وهو ما كان يحدث قبيل إنطلاق أي عملية عسكرية جديدة، اللقاءات المتعددة التي يتم الحديث عنها (بشار - بوتين، بوتين - بايدن، بوتين -اردوغان) والتسريبات حول لقاءات إستخباراتية تركيا سوريا، خطة الغاز المصري، تطبيع العلاقات بين الأردن ودمشق، هذه المؤشرات جعلت المزاج العام يميل الى إن القضية السورية على وشك الانتهاء، وإلى أن عودة الحكومة السورية للسيطرة على ما تبقى منها هو مجرد وقت وهي مرهونة بالانسحاب الأمريكي. الانسحاب الأمريكي. لا يرتبط القلق الذي يسود في شمال وشرق سوريا بالإنسحاب من عدمه، بقدر إرتباطه بالأسئلة التالية: متى؟ كيف؟ وماذا بعد الانسحاب؟


فالوجود الأمريكي هو عامل استقرار وتوازن مهم، وهو صمام الأمان لكبح جماح روسيا وتركيا وإيران (مجموعة الآستانا) الذين ينتظرون بفارغ الصبر الساعة التي يرون فيها آخر جندي أمريكي يغادر سوريا للإنقضاض على ما تركته الولايات المتحدة فيها، كما أن إنسحابها سوف يؤدي الى نتائج كارثية، فهي لن تسمح للنظام السوري بالسيطرة على السلطة فقط، بل ستسمح للجماعات العسكرية الأخرى باعتلاء السلطة حيث سيتم ترجيح كفة حلفاء آستانا المحليين من جماعات الجيش الوطني، و الميليشيات الإيرانية والذين ارتكب جميعهم جرائم حرب وهي رسالة سوف تشجع الأنظمة والجماعات المستبدة للإفلات من العقاب في العالم أجمع. كما سيؤدي إلى تقويض جهود المجتمع المدني في الوصول الى دولة ديمقراطية تعددية، ولن تقوض جهود محاربة داعش فقط بل ستوفر لها مساحة وموارداً وعناصر مدربة لتهديد الاستقرار الأمني الإقليمي والدولي.


فاليوم في سوريا يوجد الآلاف من المقاتلين الذين عركتهم الحرب المستمرة، وامتهنوا السلاح وأي فراغ أمني سيجعلهم سلعة في السوق السوداء الإقليمية لإستخدامهم في النزاعات الدولية وتصفية الحسابات خارج سوريا، كما حدث سابقاً عندما أرسل مقاتلون سوريون الى ليبيا وأرمينيا.


انطلاقاً من هذه الدور الهام في تحقيق تكافؤ في موازين القوة على الولايات المتحدة الإبقاءعلى تواجدها العسكري في سوريا لحين الوصول لإتفاق سلام شامل ينقل سوريا من مرحلة إلى أخرى، ويضمن لحلفائها مستقبلاً أفضل فيها.



تعاون أمريكي – روسي

هذا الركود السياسي في الملف السوري لا يمكن تحركيه إلا من خلال تعاون أمريكي-روسي، ومن خلال فصل الملف السوري عن باقي الملفات العالقة بين الطرفين فعلى الرغم من أن ذلك لا يبدو ممكناً في الوقت الحالي إلا أنها أكثر الآليات منطقية، فالطرفين بحاجة إلى تعاون أكبر للخروج من الازمة السورية. إذا كان لا بد لهذا التعاون أن ينعكس في شكل إتفاق بين الإدارة الذاتية والحكومة السورية، كما تم تداولهُ، فعلى الولايات المتحدة تلافي الثغرات التي وجدت في إتفاق درعا، فالتجارب جميعها تثبت أنه لا يمكن الوثوق بالحكومة السورية والمليشيات الإيرانية الموجودة على الأرض، وعليه يجب أن ترعى الدولتين الاتفاق وأن تكونا ضامنتين لهذا الإتفاق، وكما يجب أن يكون ضمن الإتفاق السوري العام ومرتبط بالقرارات الأممية وخاصة ٢٢٥٤ وأن يتم المصادقة عليه في مجلس الأمن لإضفاء صفة شرعية وسياسية عليه، ويجب أن تركز المفاوضات على شكل من أشكال الحكّم الذاتي كضمانة مستّدامة لحماية السوريين من إنقلاب موازين القوى وعودة سوريا إلى المربع الأول. في هذه المنحى يبدو الروس أكثر اتزاناً وغير مستعدين لتقديم تنازلات، خاصةً أن لديه مساراً أكثر أهمية وهو آستانا، ففي حال فشلت في الحصول على تنازلات مرضية من الولايات المتحدة، فقد تعطي الضوء الأخضر لحليف الولايات المتحدة في الناتو، تركيا من أجل قضم مناطق أخرى من مناطق النفوذ الأمريكي مقابل قضمها مناطق نفوذ المعارضة السورية المدعومة من تركيا، لسببين، أولهم خروج الولايات المتحدة وتقلص مناطق نفوذها يشكل أولوية لها، والثاني ثقتها بأن تركيا لن تستطيع الصمود في وجهها إذا ما خرجت الولايات المتحدة.

لذا سيكون الاعتراف السياسي المشروط بمزيد من"الضمانات" في التضمين والمشاركة بالإدارة الذاتية من قبل الولايات المتحدة وحلفاءهاعامل قوة لموقفها في المفاوضات، وسيسمح لها بالحفاظ على تواجد دبلوماسي طويل الأمد، فإضفاء صفة الشرعية الدولية يبدو ممكناً خارج مظلة الأمم المتحدة أيضاً. ويبقى السؤال الأكثر إلحاحاً هو: هل يمكن للإدارة الذاتية ضمان حكم شامل يشمل محافظتي دير الزور والرقة، وهل يمكن الحفاظ على نموذج الحكم القائم على التعددية؟ في مفاوضاتها مع الحكومة السورية. الحوار مع تركيا: من خلال زيارتها الأخيرة الى واشنطن صرحت إلهام أحمد، خلال مشاركتها بندوة في معهد "واشنطن لدراسات الشرق الأدنى"، أن "قسد" مستعدة للحوار مع تركيا وحلّ الخلافات كافة معها بالطرق السلمية والحوار، مقابل معالجة ملفات مرتبطة بالأكراد مثل عفرين ورأس العين وتل أبيض شمالي سوريا، والتي خضعت للنفوذ التركي إثر عمليتي "غصن الزيتون" و"نبع السلام". لا خلاف على أن الحوار مع تركيا مشروط بإنهاء إجراءات التغيير الديمغرافي، وإخراج جميع الفصائل الجيش الوطني وعودة الناس الطوعية والآمنة الى منازلهم، دبلوماسية ناجعة، بالمقابل تركيا تريد ضمانات لحماية حدودها الجنوبية؟ وخروج مقاتلي حزب العمال الكردستاني وفصل العلاقة العضوية بينهم وبين حزب الاتحاد الديمقراطي.. ومن هذه الشروط يبدو جلياً أن مهمة الولايات المتحدة في تيسير حوار فعال بين تركيا وقسد من أجل إنهاء جميع إجراءات الحرب والانتقال إلى إجراءات بناء علاقات حسن الجوار صعبة جداً، ولكن يمكن لاستراتيجية "خطوة بخطوة" أن تكون مفيدة، ويمكن للتبادل التجاري والتعاون الاقتصادي أن يلعب دوراً مهماً في تطبيع العلاقات وتحسينها في حال حدوثه، فعلى الولايات المتحدة إقناع تركيا بالتخلي عن موفقها المتصلب والعنصري تجاه الكرد، وعلى حزب الاتحاد الديمقراطي بذل مرونة أكبر للانخراط في هذا الحوار، ويمكن لعدة أطراف لعب دور إيجابي في هذا الحوار مثل المجلس الوطني الكردي وأربيل كذلك حزب الشعوب الديمقراطية في تركيا، إذ لا يمكن بناء سلام بين تركيا والإدارة الذاتية بمعزل عن عملية السلام في تركيا، لذلك يجب أن تكون عملية سلام شاملة. فجميع الأقاليم والشعوب اليوم بحاجة الى استقرار سياسي واقتصادي.

شكل الحكم. رغم كل محاولات بعض الأحزاب المنضوية في الإدارة الذاتية والقوى السياسية الأخرى خارجها والمجتمع المدني في شمال وشرق سوريا من أجل تعزيز الديمقراطية وحقوق الانسان والحريات، إلا أن سلطة حزب الاتحاد الديمقراطي تمثل اليوم سلطة ما فوق القانون، وهي سلطة غير خاضعة للمساءلة القانونية بل للمساءلة الحزبية، وهناك عدم رغبة جدية في مشاركة السلطة مع أي طرف كان رغم التصريحات المستمرة من قبل قياداته التي تدعو للمشاركة، كما تؤدي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية السيئة دوراً كبيراً في انهيار الثقة بمشروعه السياسي، وعلى الطرف الآخر من الضفة يبدو المجلس الوطني الكردي كياناً لا يملك مشروعاً ناجعاً، يمكن من خلاله تغيير الأوضاع، كما أن موقف بعض قياداته وتماهيها مع الانتهاكات الحاصلة في مناطق "غصن الزيتون" و"نبع السلام" له تأثيرات سلبية كبيرة ليس فقط سياسيا،ً إنما على صعيد حاضنته الشعبية أيضاً. لذلك ينبغي على الولايات المتحدة وحلفاءها بذل جهود أكثر جدية وصرامة من أجل إنجاح الحوار الكردي و بذل جهود أكثر من أجل مشاركة المجتمع المدني والنساء، كذلك العمل على تشكيل حكم أكثر توازناً في إشراك جميع المكونات، وأن تكون الفرص متكافئة ومتساوية سياسياً واقتصادياً بين الجميع، وقد يشكل العقد الإجتماعي الذي تعمل الإدارة الذاتية عليه فرصة كبيرة لتطوير اللامركزية من إدارية الى سياسية بين المحافظات الثلاث، والتي قد تشكل أساساً لبناء شكل الحكم المستقبلي في سوريا،


كما يمكن العمل على الحكم الذاتي الثقافي لبعض المكونات مثل الآشوريين والأيزيدين كواحدة من آليات ضمان حقوق المكونات وانخراطهم فعلياً في الحكم، ويمكن أن يمتد لاحقاً ليشمل مكونات قومية ودينية أخرى في سوريا، ولكن بطبيعة الحال هذه التحولات تحتاج إلى وقت وإلى حزب حاكم قوي في السلطة، وهنا يمكن لحزب الاتحاد الديمقراطي لعب هذا الدور الآن إلى حين إجراء انتخابات نزيهة وشفافة وفق عقد اجتماعي متماسك ومتفق عليه. كما ينبغي العمل على حماية وفصل مؤسسات الإدارة الذاتية عن التجاذبات الحزبية والعشائرية وغيرها، والعمل على حوكمتها أكثر، والاعتماد على التكنوقراط بدلاً من الكوادر الحزبية والشخصيات غير المؤهلة والتي تشرك في الحكم وفق محاصصات إثنية أو عشائرية.

كل هذه التحولات تحتاج إلى توفر إرادة جدية لدى الحكومة الأمريكية لتوفير الدعم المناسب لتطوير شكل الحكم، ويجب التركيز على تطوير الاقتصاد والبنية التحتية وحتى تغير فلسفة السوق الاجتماعي التي تتبناها الإدارة الذاتية، وهذا يحتاج الى دعم في مجالات التنمية السياسية والحوكمة وتعزيز حقوق الانسان والحريات وحقوق النساء، أي بعبارة أخرى التحول من الشكل النمطي للتمويل القصير المدى "غير الاستراتيجي" إلى اعتماد إستراتيجية قائمة على تطوير نظام حكم يستمر لـ ٣٠ عاما وليس ثلاثة أشهر. الدور الأوربي، وإعادة الإعمار. على الأوربيين عدم الإختباء وراء الولايات المتحدة. إذا ما أرادوا حماية مصالحهم ومساعدة الشعب السوري، ولعب دور أكبر في سوريا، ويمكن لملف إعادة الإعمار أن يشغل موقعاً مهماً في زيادة الدور الأوربي لتحقيق الإستقرار في سوريا والشرق الأوسط، ويمكن لهذا الملف أن يشكل قاعدة لبناء مصالح مشتركة بين جميع الأطراف السابقين، وإذا ما توفرت إرادة جدية في الوصول إلى إتفاق روسي أمريكي، وإيجاد حل حقيقي في سوريا فستلعب ورقة إعادة الإعمار دوراً مهماً، وستشكل اختباراً حقيقياً لنوايا الأطراف جميعها، عندها يمكن البدء بملف إعادة الإعمار على مراحل، ولتجنب عدم التزام الحكومة السورية وحلفائها يمكن البدء من شمال وشرق سوريا، وتضمين جميع الأطراف الدولية والإقليمية في عملية إعادة الإعمار على سبيل المثال إلى جانب الأوربيين والروس والأمريكيين ،أربيل وتركيا، ويمكن أن يساعد هذا الملف في تخفيف الأعباء الإنسانية، ويؤدي إلى مزيد من الاستقرار، ونجاح العملية سيؤدي إلى فتح آفاق جديدة لعملية إعادة إعمار شاملة. الإطار الزمني. في السابق كانت جميع الإتفاقيات مؤطرة بمدة زمنية لا تتناسب وحجم الملفات العالقة كذلك حجم العمل الذي تحتاجه، لذلك سيكون وجود إطار زمني مناسب عاملاً مساعداً في تخفيف الضغوطات على جميع الأطراف، ويتيح المجال للبناء بشكل صلب، وجميع ما تم ذكره سابقاً من تعاون امريكي روسي، وتعاون كردي-تركي بالإضافة الى تطوير شكل الحكم يحتاج الى إطار زمني يمتد من ٣ إلى ٥ سنوات.


خلاصة القول: يمكن الإختلاف في الكثير من إجراءات الإنتقال السياسي في سوريا بين الأطراف المتعددة، وسيكون من المستحيل المطالبة بتوافق جميع اللاعبين الدوليين، ولكن يجب على الولايات المتحدة لعب دور جوهري في إيجاد حل جذري كونها الفاعل المؤثر الوحيد في السياسة الخارجية، وعلى الأرض الذي لا يدعم سياسات القضم والتغيير الديمغرافي بشكل مباشر ولا يدخل في تسويات تبادل المناطق التي باتت تطبع الملف السوري، وتفتح الباب أمام خلق حروب أهلية أكثر حدة في المستقبل.






Kommentare


bottom of page