top of page

مساحة العمل المدني في شمال وشرق سوريا


سوريا| اربيل | بروكسل

 

مدخــــــــــــــــــل. يمكن اعتبار ظهور مؤسسات المجتمع المدني بشكلها الحالي ظاهرة جديدة في المجتمع السوري حيث إن التغييرات السياسية والاجتماعية وتوفر التمويل فتحت آفاقاً جديدة للعمل المدني، استطاع من خلالها أن يلعب دوراً بارزاً في التصدي للاحتياجات المجتمعيّة انطلاقاً من المساعدات إنسانية وصولاً إلى القضايا الحقوقية.

وعلى الرغم من أن شمال شرقي سوريا توفر مساحة جيدة للعمل المدني إذا ما تمت مقارنتها مع باقي مناطق السيطرة المختلفة، إلّا أنها في الوقت ذاتهِ تُعاني من صعوبات جمّة تتعلق بتوفر البيئة الآمنة وقوننة العمل وحوكمة المنظمات على حدٍ سواء ناهيك عن تقلص تلك المساحة يوماً بعد يوم لأسباب امنية وسياسية. ولا نستطيع أن ننكر أن المجتمع المدني خاض حروباً كثيرة من أجل التصدي لاحتياجات المهجرين قسراً داخلياً وخارجياً، وواجهت تحدياتٍ جمّة في سبيله، لكن مازالت حيادية المجتمع المدني تجاه المجتمعات وأفراده محل تساؤل وشك كبيريَن وهو ما ينطبق على استقلاليته السياسية أيضاً تتناول هذه الورقة واقع ومساحة العمل المدني في شمال شرق سوريا واستناداً إلى الآراء التي نُوقشت في الجلسة الحوارية التي عقدتها تفن (TEVN) افتراضياً عبر الانترنت بتاريخ 23 تشرين الثاني من العام 2020، بمشاركة /26/ منظمة مجتمع مدني عاملة في شمال شرق سوريا، إقليم كوردستان العراق ودول الاتحاد الأوروبي.

واقع عمل المنظمات في البداية قام المجتمع المدني بمهام الدولة نتيجة الحاجة الماسة وضعف المؤسّسات الخدمية، اذ قامت بإيصال المساعدات الإنسانية، توثيق الانتهاكات، حل النزاعات ،السعي إلى المساواة بين الجنسين، نقل الواقع صوت وصورة والعديد من الأدوار الأخرى، إلا أن نقص الخبرة وضعف الإمكانيات وديناميكيات الحرب المتغيرة أعاقت قدرتها على تحقيق نجاحات متكاملة ، فلم تستطع أي منظمة توثيق جميع الانتهاكات في شمال شرق سوريا ولم تستطع حتى الآن من بناء قاعدة بيانات مدعومة بقرائن موثوقة يمكن استخدامها في المحاكمات يوماً ما وفق لبعض المشاركين.

فعلى الصعيد الإغاثي ، تمكنت من تغطية نسبة كبيرة من احتياجات النازحين والمتضررين من الحرب ، لكنها تراجعت تدريجياً في السنوات الأخيرة بسبب نقص التمويل والقرارات السياسية من قبل الدول الأعضاء في مجلس الأمن والتي أعاقت قدرات المجتمع المدني على الصعيد الانساني ، مثل روسيا والصين التي استخدمت حق النقض (الفيتو) ضد مجموعة من القرارات المتعلقة بإيصال المساعدات الإنسانية ، وكان آخرها عدم تجديد قرار الأمم المتحدة رقم 2165 بشأن إيصال المساعدات عبر الحدود ، مما أدى إلى إغلاق المعابر الحدودية العراقية مع سوريا (معبر اليعربية).

أما بالنسبة للحشد والمناصرة والمساواة بين الجنسين فقد كان عدد المشاريع المنفذة كثيرة، لكن بعض المنظمات تعتقد أنها لم تحقق التغيير المطلوب على المستوى الاجتماعي أو على مستوى مؤسسات الحكم المحلي وتعزو معظم الأسباب إلى قلة الخبرة وعدم تقبل المجتمعات المحلية ذات الطابع العشائري والديني لهذه التغيرات وأيضاً الى قصر الفترة الزمنية لهذا النمط من التغيير فهي قد تستغرق سنوات كثيرة لإعطاء النتائج المرجوة.

يعتبر عمل المجتمع المدني في حل النزاعات وبناء السلام تطوراً إيجابياً بعد أن اجتمعت مجموعة من الظروف ساهمت في نشوء مناخ ملائم لها، فالحرب السورية ذاتها يعتبر عاملاً محفزاً حيث أدت الى ضعف القبضة الأمنية للحكومة السورية وفتحت نوافذ صغيرة لكن مازالت المجتمعات المحلية تعاني من انقسامات عميقة نتيجة للاستقطاب السياسي الشديد على الرغم من الأدوار العديدة إلا أن العمل المدني مازال عبارة عن ردة فعل تجاه الواقع الذي نعيشه وهو شكل من أشكال الاستجابة للمتغيرات التي حدثت وتحدث، الأمر السلبي أن العديد من المؤسسات لا تملك نظريات تغيير فعالة وقابلة للتطبيق، وغالبية خططها الاستراتيجية لم تتحوّل إلى خطة عمل كاملة وبقيت أحياناً كثيرة محصورة في النقاشات وورش العمل، وأمام هذا الواقع النقدي يبقى السؤال مطروحاًهل نجح المجتمع المدني في تحقيق ما سع إليه بالشكل المطلوب؟ "

المعوقات والتحديــــــــــــــــات: عمل المجتمع المدني بقطاعاته المختلفة في شمال شرق سوريا في بيئة صعبة وغير آمنة وغير مستقرة شهدت تقلبات كثيرة خاصة في السنوات الأخيرة، التي لم تنحسر حروبها وموجات النزوح منها بعد، كما ساهمت سياسات المانحين وقيودهم في تقويض استجابة المجتمع المدني للتغيرات الكبيرة إضافة إلى غياب الرؤية والمنافسة الشديدة والفساد في بعض الأحيان وغياب الرقابة والاستقطاب السياسي والانقسام بين داخل وخارج البلاد، وغياب القانون التنظيمي ساهم أيضاً في ضعف الاستقلالية وأثرت على حادية المجتمع المدني.

رغم الجهود المبذولة إلّا أنه يلاحظ ضعف واضح في بنية المجتمع المدني على المستوى الإداري والمالي، كما برز نقص الخبرة وقلّة الكوادر ونقص اعتماد مبدأ الحوكمة كوسيلة لتوجيه بوصلة العمل المدني كأكبر وأهم تحد يجب حلها، بالإضافة الى الاستقطاب السياسي الكبير ما أدت بمجملها إلى ضعف الثقة على المستوى الاجتماعي وأثرت سلباً على شرعيتها وقدرتها على الاستجابة للمسؤولية الاجتماعية المنوطة بها.

كما يشكل نقص التمويل الدولي والافتقار إلى الموارد المالية المحلية البديلة أكبر التحديات ويزيد من وطأته ضعف ثقافة العمل التطوعي بسبب ارتفاع معدلات البطالة وشح دخل الفرد وحداثة ثقافة العمل المدني.

القوانين الناظمة: إن توفر البيئة القانونية تعتبر من الركائز الأساسية لبناء الاستدامة، وتوفرها ستساعد المجتمع المدني على القيام بأدواره بالشكل الصحيح ويساهم في بناء شراكة على أسس ندية أكثر ومساعدة كل طرف لممارسة دوره الفعال، حيث توفر الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا بيئة قانونية جيدة نسبيًا من خلال تشكيل هيئة شؤون المنظمات لكل مدينة على حدي والتي يتمثل دورها في تسهيل شؤون عمل المنظمات ومنح الموافقات والتراخيص القانونية، ويتم ذلك بعد عملية بحث معمقة تجريها مع هيئاتها ومؤسساتها المدنية والأمنية.

لا يمكن إنكار أن مساحة العمل المدني في مناطق الإدارة الذاتية أكبر إلى حد ما من تلك الموجودة في مناطق سيطرة القوى الأخرى، لكن هناك حالات كثيرة تبين أن الدوافع السياسية كانت عاملاً رئيسياً في رفض أو قبول تراخيص العمل، كما أن الإجراءات المقترحة تكون في غالبيتها معيقة وليست ذات صلة بمهمتها الرئيسية في الكثير من الحالات على سبيل المثال "أصدرت هيئة شؤون المنظمات مؤخرًا تعميمًا يطالب المنظمات بتزويدها بتقارير شهرية عن نشاطاتها، هذه الإجراءات يراها المجتمع المدني معيقاً لعملها وتدخلاً غير مبرر، حيث أن معظم المشاريع قصيرة تتراوح مدتها بين ثلاثة وستة أشهر و لا يمكن تقديم تقارير شهرية وأنشطتها ما زالت جارية، ناهيك أنه يعتبر يمكن اعتباره اجراءً تعسفياً وخاصة أن الإدارة الذاتية لا تقدم أي دعم مالي أو لوجستي للمجتمع المدني".

ومن الأمثلة الأخرى على الخلل الكبير في الإجراءات المقترحة من قبل الإدارة الذاتية " هو مطالبة المنظمات المدنية بتقديم تقارير تتعلق بالتوظيف وذلك بهدف مكافحة الفساد، بدون توفير خطة عمل متكاملة لمكافحة الفساد أو اقتراح حلول أخرى بشكل شفاف، في الوقت الذي كانت تستطيع فيه وضع إجراءات تتيح الفرصة للجميع بشكل متساوي للتقديم على الوظائف الشاغرة وأن يتم تطبيقها على الجميع بما فيهم مؤسسات الإدارية الذاتية المليئة بالمحاباة.

وهناك خلل آخر في قوانين العمل المدني وهو التضمين حيث إن هذه القوانين التي تم وضعها كانت أحادية الجانب. لم يتم التشاور مع المجتمع المدني أو تضمين آراءهم رغم محاولة بعض المنظمات اقتراح بعض الحلول والقوانين وإبداء الملاحظات لكنها رفُضت، وهذا يجعل شرعية هذه القوانين محل تساؤل كبيراً ويجعل الاستجابة لها من قبل المجتمع المدني ضعيفاً، على العموم يبقى التساؤل مفتوحاً للمزيد من البحث والنقاش! “هل القوانين التي تم وضعها تعزز مساحة العمل المدني أم تستحوذ عليه ؟! "

العلاقات يُقال أن علاقة المجتمع المدني يجب أن تكون ندّية لأي حكومة أو سلطة محلية في جميع الدول سواء كانت ديموقراطيات متجذرة أو ناشئة، تتحقق هذه العلاقة الندّية والمتوازنة في الدولة المستقرة التي يتوفر فيها دستور متفق عليه يحمي الجميع ويفصل بين السلطات، وهو ما لا يتوفر في شمال شرق سوريا لذلك فالعلاقة القائمة بين الإدارة الذاتية من ناحية والمنظمات من ناحية أخرى يشوبها الكثير من الشكوك وعدم الثقة المتبادلة نتيجة للاستقطاب السياسي الكبير الذي أدى الى نشوب صراعات كثيرة كانت ناعمة في غالبيتها، كما أن عدم توفر الندية والتوازن المطلوب في الصراع أدى الى تضييق مساحة العمل المدني وخاصة في مجال الحريات وحقوق الانسان.

هذه العلاقة القائمة على انعدام الثقة يمكن إرجاعها إلى عدم إيمان الأحزاب بدور وأهمية المجتمع المدني على العكس من ذلك، فهي تعتبرها منافسًا وعقبة أمام جهودهم ومن ناحية أخرى فقدت المنظمات - نتيجة الاستقطاب السياسي - الكثير من حيادتيها واستقلالها السياسي مما زاد في تعميق الفجوة وأدى إلى المزيد من انعدام الثقة والشك المتبادل والمنافسة الكبيرة في العلاقات داخل المجتمع المدني نفسه أيضاً.

التمويل تعتمد المنظمات المحلية في تمويلها على الهيئات والمنظمات الدولية والحكومات المانحة وتبرعات السوريين في الخارج والأخيرة ذات نسبة ضئيلة وعلى الرغم من توفر التمويل خلال السنوات الماضية إلا أنه يعتبر منخفضاً نظراً الى الاحتياجات المتزايدة التي تنتجها آلة الحرب ناهيك على وجود ثغرة كبيرة في توجيه الأموال ووضع الاستراتيجية البرمجية من قبل المانحين أولويات المانحين دائماً ما كانت وبنسب عالية مختلفة عن أولويات المجتمع المدني وارتبطت بشكل وثيق بأولويات الحكومات السياسية فكانت عبارة عن ردة فعل للصراع العسكري ونتيجة لأثاره الجانبية أدى الى خلل في توزيع التمويل على القطاعات الجغرافية المختلفة وقطاعات العمل، فالتركيز على إعادة الاستقرار في الرقة، ديرالزور مثلاً ساهم في خلق فجوة في العمل على قضايا حقوق الانسان و قضايا المساواة بين الجنسين وخلقت بيئة عمل شبيهة لبيئة رجال الأعمال، كما أن سياسات توزيع التمويل بين المحافظات الثلاثة أدت الى خلق نزاع بين المحافظات وحتى بين المكونات المختلفة.

كوفيد19 بداية ظهور الفايروس في شمال شرق سوريا قامت هيئة الصحة في الإدارة الذاتية بالتعاون مع الهلال الأحمر الكردي ومنظمة الصحة العالمية باتخاذ عدّة إجراءات، أهمها قرار إنشاء مستشفى “كوفيد -19” بريف مدينة الحسكة، هو مستشفى مجهز بـ 120 سريراً لاستقبال حالات الاشتباه وحالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد ذات الأعراض المتوسطة، بالإضافة إلى فرض حظر كلي وجزئي.

وبشكل استثنائي قامت هيئات شؤون المنظمات بتسهيل عمل المنظمات واستثنائهم من الحظر وتقديم التقييمات والجداول اللازمة لهم خاصة عن المناطق التي ظهرت فيها الإصابات، كما أن المجتمع المدني كرس 60% من أنشطته في سبيل التصدي لفايروس كورونا والتخفيف من آثاره، إجراءات الإغلاق والحجر الصحي أدت الى قيام المانحين والمنظمات الدولية إلى إيقاف بعض المشاريع وتقليص تمويلها للمجتمع المدني حيث اضطرت الاخيرة إلى تقليل أعداد موظفيها وتخفيض الرواتب ، هذه الإجراءات أضعفت من قدرات المنظمات المحلية على الاستجابة بشكل يتناسب مع حجم الكارثة وقيدت من حركة المنظمات وأيضاً أضعفت من قدرة المنظمات المالية بشكل كبير حيث يقول أحد مدراء المنظمات أن المشروع الذي كنا نقوم بتنفيذه بــــ 25 ألف دولار أصبحنا اليوم ننفذه بـ 5 آلاف دولار وهو رقم لا يمكن لنا من خلاله الحفاظ على جودة العمل أو جودة الخدمة المقدمة.

على الرغم من الجهود المبذولة من قبل المجتمع المدني للتصدي لكوفيد – 19 في البداية إلا أنه لوحظ في الآونة الأخيرة تناقص فاعليتها في مكافحة الفيروس وأيضاً تراجع دورها التوعوي من أجل الالتزام بالإجراءات الاحترازية وإجراءات الحجر الصحي، وهناك مخاوف لدى البعض أن تتحول بيئة العمل ضمن مؤسسات المجتمع المدني إلى بيئة ناقلة للفيروس بسبب تراجع مستوى إجراءات الوقاية داخل المؤسسات ذاتها.

الاستنتاجات والتوصيـــــــات: أولاً: يشهد الواقع الحالي أزمة جراء ظهور جائحة كوفيد-19 على المستويات الصحية والمعيشية ويستوجب تظافر وتكاتف الجهود لتجاوز هذه الأزمة وتفادي سيناريوهات خطيرة والحدّ من تداعياته عبر إشراك الجميع في التخطيط والقرارات التي يتم صياغتها من قبل الإدارة الذاتية، كما يجب على الأحزاب السياسية بذل المزيد من الجهد من أجل المساهمة بشكل إيجابي لإيجاد الحلول وعليها فصل ملف الخدمات وخاصة القطاع الصحي عن الملف السياسي.

ثانياً: على الإدارة الذاتية توفير بيئة عمل قانونية تؤسس لعلاقة ندية تصون حقوق وأدوار الجميع وتساعد على توسيع مساحة العمل المدني وتعزيز دوره بعيداً عن الاستقطاب السياسي، وعليها إشراكه وتضمينه في إعادة تقييم قوانين العمل الخاص بالمجتمع المدني والاستماع إلى آرائهم، وعلى الأحزاب والأطر السياسية الانفتاح أكثر على دور المجتمع المدني وسد الفجوة فيما بينها من أجل تعزيز الثقة وعليها تقديم كافة أشكال الدعم المجتمعي للمنظمات من أجل القيام بواجباتها ثالثاً: يجب على المانحين والأمم المتحدة إجراء إعادة تقييم لخططها واستراتيجيتها المحلية على المستوى البرامجي واعتماد المقاربة المحلية في توفير الأموال التي تحتاجها المجتمعات المحلية بعيداً عن مواقفها السياسية وعليها تغيير إجراءاتها وسياساتها المالية في تقديم المنح من حيث الشكل والمضمون وعليها التوقف عن سياسة تمويل المشاريع والبدأ في تمويل الصندوق الأساسي للمنظمات لبناء الاستدامة.

رابعاً: على الإدارة الذاتية توفير تمويل محلي للمنظمات المحلية من العائدات الاقتصادية وغيرها وفق قواعد النزاهة والشفافية تضمن المساواة للجميع في الحصول على التمويل بدون أي امتياز ويجب اقتراح إجراءات تساعد على توفير أكبر قدر من الحيادية.

خامساً: انخراط المجتمع المدني في العمل لا يتيح له الوقت الكافي للوقوف وإلقاء نظرة إلى الوراء ودراسة التطور الذي تحقق بشكل عميق وخاصة على مستوى الاستدامة لذلك عليها إجراء مراجعة شاملة للسنوات الماضية وتحديد ما لها وما عليها بشكل شفاف وفق ما تمليه عليها مسؤوليتها الاجتماعية.




Comments


bottom of page